فصل: تفسير الآيات (250- 252):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (250- 252):

{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: ولما برز طالوت بمَن معه {لجالوتَ}، أي: ظهر في البرَاز، ودنا بعضهم من بعض، تضرعوا إلى الله واستنصروه، وقالوا: {ربنا أفرغ علينا صبراً} أي: أصْبُبْه علينا صبّاً، {وثبت أقدامنا} عند اللقاء لئلا نَفِرّ، {وانصرنا على القوم الكافرين}. وفي دعائهم ترتيب بليغ؛ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدمِ في مَدَاحِضِ الحرب المُسببِ عنه، ثم النصرَ على العدو المرتب عليها غالباً.
فهزم الله عدوَّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته، {وقتل داود جالوت}. وقصة قتله: أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش، وهو أبو داود عليه السلام ستة أو سبعة، وكان داود صغيراً يرعى غنماً، فلما حضرت الحرب قال في نسفه: لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فمرَّ في طريقه، بحجر فناداه: يا داود خُذْني، فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها، وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز، وكاع الناس عنه، أي: تأخروا خوفاً، حتى قال طالوت: من بيرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي، وأُحَكِّمُهُ في مالي، فجاء داود، فقال له طالوت: اركب فرسي وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكله، فلما مشى قليلاً رجع، فقال الناس: جَبُنَ الفتى، فقال داود: إن الله سبحانه لم يقتله ولم يُعنى عليه، لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أُحب أن أقاتله على عادتي. وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل، وأخذ مخلاته فتقلدها، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت، وهو شاكٍ في السلاح، فقال جالوت: أنت يا فتى تخرج إليّ! قال: نعم، قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال: نعم، وأنت أهون، قال: لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت، وصارت حجراً واحداً، فأخذه ووضعه في المقلاع، وسَمَّى الله، وأداره، ورماه، فأصاب رأس جالوت فقتله، وجزّ رأسه، وجعله في مخلاته، واختلط الناس، وحمل أصحابُ طالوت فكانت الهزيمة.
ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال: حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس يؤذون الناس وتجيئني بسلبهم، فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك، فدفع إليه امرأته وتخلّى له على الملك. ولما تمكن داود- عليه السلام- من الملك، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف.
فآتي اللّهُ داود {الملك والحكمة} وهي النبوة، وقيل: صنعة الدروع ومنطق الطير {وعلمه مما يشاء} من أنواع العلوم والمعارف والأسرار، وقد دفع الله بأس الكافرين ورد كيدهم في نحرهم، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} أي: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، فينصر المسلمين على الكافرين، ويكف فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض.
أو: لولا أن الله نصب السلطان، وأقام الحكام لينصفوا المظلوم من الظالم. ويردوا القوي عن الضعيف، لتواثب الخلق بعضهم على بعض، وأكل القوي الضعيفَ فيفسد النظام. أو: لولا أن الله يدفع بالشهود عن الناس في حفظ الأموال والنفوس والدماء والأعراض، لوقع الفساد في الأرض.
أو: لولا أن الله يدفع بأهل الطاعة والإحسان عن أهل الغفلة والعصيان، لفسد الأرض بشؤم أهل العصيان. وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يَدْفَعُ بالمُصلِّي مِنْ أمَّتِي عَمَّنْ لا يُصلي، ويمنْ يُزكيَّ عَمَّنْ لاَ يُزَكِّي، وبِمنْ يَصُومُ، عَمَّنْ لاَ يَصُوم، وبمَنْ يَحُجُّ، عَمَّنْ لاَ يَحُجُّ، وبَمَّنْ يُجاهِدُ عَمَّنْ لاَ يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هذِهِ الأشْياءِ ما أنْظَرَهُمُ الله طَرْفة عَيْنٍ».
وفي حديث آخر: «لولا عباد الله رُكَّع، وصبية رُضَّع، لصبَّ عليكم العذاب صبّاً».
ورَوى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليُصْلِحُ بصلاح الرجل- ولده وولدَه ولدهِ، وأهل دُوَيْرَتِه، ودويراتٍ حوله، ولا يزالون في حِفْظِ الله ما دام فيهم». اهـ. فهذا من فضل الله على عباده يصلح طالحهم بصالحهم، ويُشَفع خيارُهُم في شرارهم، ولولا ذلك لعوجلوا بالهلاك، {ولكن الله ذو فضل على العالمين}.
{تلك} يا محمد، {آيات الله} والإشارة إلى ما قصَّ من حديث الألوف، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة أصحاب جالوت، {نتلوها} أي: نقصها عليكم {بالحق} أي: بالوجه المطابق الذي لا يَشُك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ، {وإنك لمن المرسلين} حيث أخبرت بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع، فلا يشك أنه مِنْ عند الخبير العليم، إلا من طبع الله على قلبه. نعوذ بالله من ذلك.
الإشارة: من علامة النُجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس وَالهوى والشيطان وسائر القُطاع، واستنصر بالله وتبرأ من حوله وقوته، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه، وكان سبباً في نجح نهايته، فيملكه الله الوجود بأسره، ويفتح عليه من خزائن حكمته. قال أبو سليمان الداراني (إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يُؤدّي عالمٌ علماً). وفي الخبر: «من عَمِل بما عَلِمَ أورثه الله عِلْمَ ما لم يعلمْ». وكان حينئذٍ رحمة للعباد، يدفع الله بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده.
وفي الحديث القدسي: «يقول الله عزّ وجلّ: إذا كان الغالبَ على عبدي الاشتغالُ بي جعلتُ همته ولذَّته في ذكري، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كَلاَمُهُم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم» حقَّقنا الله بمحبتهم وجعلنا منهم... آمين.
ولمَّا ذكر في هذه السورة جملة من الأنبياء والرسل، وشهد لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه من المرسلين ذكر تفضيل بعضهم على بعض في الجملة.

.تفسير الآية رقم (253):

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}
{تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس...}
{قلت}: {تلك}: مبتدأ، و{الرسل}: نعت، أو بدل منه، أو بيان، و{فضلنا}: خبر، أو {الرسل} خبر، و{فضلنا}: خبر ثان، والإشارة إلى الجماعة المذكور قَصَصُها في السورة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {تلك الرسل} الذين قصصناهم عليك، وذكرتُ لك أنك منهم، {فضلنا بعضهم على بعض} بخصائص ومناقب لم توجد في غيره. لكن هذا التفضيل إنما يكون في الجملة من غير تعيين المفضول، لأنه تنقيص في حقه وهو ممنوع. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنبِيَاءَ» «ولا تفضلوني على يونس بن متى» فإن معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه غيبة وتنقيص، وقد صرّح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنياء بقوله: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ» ولكن لا يُعَيِّن أحداً من الأنبياء بالمفضولية؛ لئلا يؤدي إلى نقصه، فلا تعارُضَ ين الحديثين.
{منهم مَن كلّم الله} وهو موسى عليه السلام في جبل الطور، وسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان قاب قوسين أو أدنى، {ورفع بعضهم درجات} وهو نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه خُصَّ بالدعوة العامة، والحُجَج المتكاثرة، والمعجزات المستمرة، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. والإبهام لتفخيم شأنه، كأنه العلم المشهور المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين. وقيل: إبراهيم، خصه بالخلة التي هي أعلى المراتب. قلت: بل المحبة أعلى منها، وقيل: إدريس لقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريَم: 57]، وقيل: أولو العزم من الرسل، قاله البيضاوي.
{وآتينا عيسى ابن مريم البينات} أي: الآيات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، {وأيدناه بروح القدس}، أي: جبريل عليه السلام كان معه أينما سار، وخصَّه بالتعيين؛ فإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، فردَّهم إلى الصواب باعتقاده نبوته دون ربوبيته.
الإشارة: كما فضَّل الله الرسل بعضهم على بعض، كذلك فضل الأولياء بعضهم على بعض، وإنما يقع التفضيل بكمال اليقين، والتغلغل في علم التوحيد الخاص، ذوقاً وكشفاً، والترقي في المعارف والأسرار، وذلك بخدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، والتفرغ التام، والزهد الكامل في النفس والفَلْس والجنْس، فمنهم من تحصل له المشاهدة وتصحبها المكالمة، ومنهم من تحصل له المشاهدة دون المكالمة، ومنهم من تحصل له الكرامات الواضحة، ومنهم من لا يرى شيئاً من ذلك استغناءً عنها بكرامة المعرفة. وما قيل في الرسل من عدم تعيين المفضول، مثله يقال في حق الأولياء، وإلا وقع في الغيبة الشنيعة؛ فإن لحوم الأولياء سموم، فليعتقد الكمال في الجميع، ولا يصرح بتعيين المفضول كما تقدم.
والله تعالى أعلم.
ولما ذكر الحقّ تعالى أحوال الرسل، وتفاوتهم في العناية، ذكر أحوال أممهم وتفاوتهم في الهداية، فقال: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
قلت: إذا وقع فعل المشيئة بعد {لو} فالغالب حذف مفعوله، كقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176]، أي: لو شئنا رفعه لرفعناه بها، وكقوله: {ولو شاء الله ما اقتتل...}، أي: لو شاء هدايتهم ما اقتتلوا، وغير ذلك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ولما بعثتُ الرسلَ، وفضَّلتُ بعضَهم على بعض، اختلفت أممهم من بعدهم فاقتتلوا، وكل ذلك بإرادتي ومشيئتي، {ولو شاء الله} هداية أممهم {ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم} المعجزات الواضحات في تحقيق رسالتهم وصحة نبوتهم، {ولكن اختلفوا} بغياً وحسداً؛ {فمنهم من آمن} بتوفيقه لاتباع دين الأنبياء، {ومنهم من كفر} بمخالفتهم، فكان من الأشقياء، {ولو شاء الله} جَمْعهم على الهدى {ما اقتتلوا}، لكن حكمته اقتضت وجود الاختلاف؛ ليظهر سر اسمه المنتقم والقهار واسمه الكريم والحليم، {ولكن الله يفعل ما يريد} {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبيَاء: 23].
وفي الآية دليل على أن الحوادث كلها بيد الله خيرها وشرها، وأن أفعال العباد كلها بقدرته تعالى، لا تأثير لشيء من الكائنات فيها. وهذا يردُّ قول المعتزلة القائلين بخلق العبد أفعاله، فما أبعدهم عن الله. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
الإشارة: اختلاف الناس على الأولياء سُنة ماضية وحكمة أزلية، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزَاب: 62]، {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هُود: 118]، فمن رأيته من الأولياء اتفق الناسُ على تعظيمه في حياته فهو ناقص أو جاهل بالله؛ إذ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، وهذا هو الغالب، والنادر لا حكم له، فلو كان الاتفاق محموداً لكان على الأنبياء أولى، فلما لم يقع للأنبياء والرسل، لم يقع للأولياء؛ إذ هم على قدمهم، وقائمون بالوراثة الكاملة عنهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (254):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} واجباً أو تطوعاً في وجوه الخير، وخصوصاً في الجهاد الذي نحن بصدد الحضّ عليه، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه بعد موتكم {من قبل أن يأتي يوم} الحساب، واقتضاء الثواب، يوم ليس فيه {بيع} ولا شراء، فيكتسب ما يقع به الفداء، وليس فيه {خُلّة} تنفعُ إلا خلة الأتقياء {ولا شفاعة} ترجى {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109] فأنفقوا مما خولناكم في سبيل الله، وجاهدوا الكافرين أعداء الله، فإن الكافرين {هم الظالمون}؛ حيث وضعوا عبادتهم في غير محلها، ونسبوا الربوبية لغير مستحقيها، إذ لا يستحقها إلا الحيّ القيّوم.

.تفسير الآية رقم (255):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
قلت: {الله}: مبتدأ، وجملة {لا إله إلا هو}: خبره، والضمير المنفصل بدل من المستتر في الخبر، و{الحي}: إما خبر ثانيٍ، أو لمبتدأ مضمر، أو بدل من {الله}، و{قيوم} فَيْعُول، مبالغة من القيام، ومعناه: القائم بنفسه المستغني عن غيره.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الله} الواجب الوجود لا يستحق العبادة غيره، فمن عبد غيره فقد أتى بظلم عظيم {الحي} أي: الدائم بلا أول، الباقي بلا زوال؛ الذي لا سبيل عليه للموت والفناء، {القيوم} أي: دائم القيام بتدبير خلقه في إيصال المنافع ودفع المضار، وجلب الأرزاق وأنواع الارتقاء، {لا تأخذه سنة ولا نوم} السنة: ما يتقدم النوم من الفتور، والنوم: حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، فتقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً.
وتقديم السنَة عليه، على ترتيب الوجود، كقوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} [التّوبَة: 121]، وجمع بينهما؛ لأنه لو اقتصر على نفس السَّنَة عند لتوهم أن النوم يغلبه لأنه أشد، ولو اقتصر على نفي النوم لتوهم أن السنة تلحقه لخفتها. والمراد تنزيهه تعالى عن آفات البشرية، وتأكيد كونه حيّاً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم يكون مؤوف الحياة، قاصراً في الحفظ والتدبير. ولذلك ترك العطف فيه وفي الجمل التي بعدَه؛ لأنها كلها مقررة له، أي: للحيّ للقيّوم.
وقد ورد أنه اسم الله الأعظم، وقال عليه الصلاة والسلام لفاظمة- رضي الله عنها: «ما مَنَعك أن تَسْمَعي ما أُوصِيك به تَقُولين إذا أصْبَحْتِ وإذا أمْسَيتِ يا حيّ يا قيُّوم، برحمتِكَ أستغيث أصْلحْ لي شأني كُلَّه، ولا تَكلْني إلى نفْسِي طَرْفَةَ عَيْنِ» رواه النسائي وأخرج مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قَامَ فِينَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بخَمْسِ كلماتٍ قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَام، يَخْفِضُ القِسطُ ويَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيل قَبْلَ عَمَلَ النَّهَارِ وعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَملِ اللَّيلِ، حِجَابُهُ النُّورُ- وفي رواية. النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبَحَاتُ وَجْهِهِ ما أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
{له ما في السماوات وما في الأرض} هذا تقرير لقيوميته تعالى، واحتاج على تفرده في الألوهية. والمراد بما بما فيهما: ما هو أعمُّ من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما، المتمكنة فيهما، من العقلاء وغيرهم، فهو أبلغ من (له السماوات والأرض وما فيهن)، يعني: أن الله يملك جميع ذلك من غير شريك ولا منازع، وعبر ب {ما} تغليباً للغالب.
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} هذا بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة، فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة.
والاستفهام إنكاري، أي: لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته، إلا بإذنه، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه، يريد بذلك شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة.
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي: ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي؛ وقيل: {يعلم ما بين أيديهم} من الدنيا {وما خلفهم} من الآخرة، وقيل: عكسه، لأنهم يقدمون ويُخَلِّفُون الدنيا وراءهم، وقيل: يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر، وما خلفهم وما هم فاعلوه، أو عكسه. والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها، فلا يخفى عليه شيء {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} أي: لا يحيطون بشيء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يُطْلعهم عليه، وعطفه على ما قبله؛ لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام، الدال على وحدانيته تعالى في ذاته وصفاته.
{وسع كرسِيُّه السماوات والأرض} يقال: فلان يسَعُ الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيامُ به. ويقال: وسع الشيءُ الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحلّ في جانبه، وهذا المعنى هو اللائق هنا. وأصل الكرسي في اللغة: من تَركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكراسة، لتركب أوراقها بعضها على بعض، وفي العرف: اسم لما يُقعد عليه، سُمِّي به لتركب خشباته. واختلف فيه فقيل: العرش، وقيل: غيره.
والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش، فوق السماوات السبع دون العرش. يقال: إن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة. والكرسي في جانب العرش كحلقة في فلاة. وعن ابن عباس: (أن السماوات في الكرسي كدراهم سبعة في تُرْسٍ) وقيل: كرسيه: علمه.
قال البيضاوي: هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد، كقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد. وقيل: كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العلم والملك، وقيل: جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج. اهـ. قلت: وقد اعترض السيوطي في حاشيته عليه. فالله تعالى أعلم.
{ولا يؤوده} أي: لا يُثْقله ولاَ يُشقُّ عليه {حفظهما} أي: حفظ السماوات والأرض. وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مُسْتَتْبع لحفظه، {وهو العلي} أي: المتعالي عن الأشباه والأنداد، {العظيم} أي: عظيم الشأن، جليل القدر، الذي يُستحفرُ كلُّ شيء دون عظمته.
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالّة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية، متصف بالحياة الذاتية، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره؛ إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزه عن التحيّز والحلو، مُبرَّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له.
عالم بالأشياء كلها: جَليِّها وخَفِيِّها، وكُليها وجِزْئيَّها. واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه، لا يشقُّ عليه شاقٌّ، ولا يشْغَله شأن عن شأن، مُتَعَالٍ عن تناول الأوهام، عظيمٌ لا تحيط به الأفهام، ولذلك تفردت عن أخواتها بفضائل رائعة وخواص فائقة، قال صلى الله عليه وسلم: «أعظمُ آيةٍ في القرآنِ آيةُ الكُرْسيّ» وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسيّ دبُر كُلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يَمْنَعْهُ من دُخُولِ الْجنَّة إلا الموتُ»- وفي رواية- «كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ رُوحِه ذُو الجَلاَل والإكْرَام- ولا يُوَاظِبُ عليها إلا صِدِّيقٌ أو عَابدْ، ومن قَرَأها إذا أخَذ مَضْجَعَه أمن على نفْسِه وَجارِه وَجارِ جَارِه، والأبيات حَوْلَه».
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما قُرئت هذه الآيةُ في بيْت إلا هَجَرَتْهُ الشياطينُ ثلاثين يَوْماً، ولا يدْخُله ساحرُ ولا ساحرةٌ أربعين يوماً، يا عليّ؛ علِّمْها ولدَك وأهلكَ وجيرانَك، فما نزلَتْ آيةٌ أعظمُ منها» قاله البيضاوي وأبو السعود، وتكلم السوطي في بعض هذه الأحاديث. والفضائل يعمل فيها بالضعيف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا أيمان أهل الخصوصية- {أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْناكُمْ} [البقرة: 254] من سعة العلوم ومخازن الفهوم، من قبل أن يأتي يوم اللقاء، يوم تسقط فيه المعاملات وتغيب تلك الإشارت، لا ينفع فيه إلا الدخول من باب الكرم، فيلقى الله بالله دون شيء سواه، والجاحدون لهذا هم الظالمون لأنفسهم، حيث اعتمدوا على أعمالهم فلقُوا الله بالصنم الأعظم، والحيُّ اليّوم الكبير المتعال غني عن الانتفاع بالأعمال، وبالله التوفيق.
ومَنْ عرف أنه الحيّ الذي لا يموت توكل عليه. قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحِيْ الذي لاَ يَمُوتُ} [الفُرقان: 58]. والتعلق به: استمداد حياة الروح بالعلم والمحبة الكاملة. ومن عرف أنه الحيّ القيّوم وثق به، ونسي ذكر كل شيء بذكره، ولم يشاهد غيره بمشاهدة قيوميته. والتعلق به استمداد معرفة قيوميته حتى يستريح من نكد التدبير، والتخلق به بأن تكون قائماً على ما كُلِّفْتَ به من أهْلٍ وَوَلَدٍ ونَفْسٍ ومَالٍ، وكُلِّ من تعلق بك من النساء والرجال.
ولمَّا وصف الحيُّ تعالى نفسه بأوصاف الكمال من الكبرياء، والعظمة والجلال وكانت شواهد ذلك ظاهرة في خلقه حتى تبيَّن الحق من الباطل.